روائع مختارة | قطوف إيمانية | أخلاق وآداب | مواقف لعلماء السلف الصالح. . من الحكام الظلمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > أخلاق وآداب > مواقف لعلماء السلف الصالح. . من الحكام الظلمة


  مواقف لعلماء السلف الصالح. . من الحكام الظلمة
     عدد مرات المشاهدة: 11731        عدد مرات الإرسال: 1

تربى في ظل العقيدة الإسلامية نماذج من البشر يحسبهم المرء أنهم جُبلوا من طينة غير تلك الطينة التي جبل منها سائر الخلق الإنساني، نماذج آمنت بإله واحد لا شريك له، وأن الأمر كله بيده.

فعاشت للحق، وتمسكت به، وصبرت عليه، وجاهدت الباطل، ونهت عنه، وتحملت تكاليفه العسيرة برضا وطمأنينة؛ لأنها تعلم حق العلم أن العطاء من الله كبير، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].

كان كثير من علماء السلف الصالح من المسلمين من تلك النماذج الفذَّة، فقد ظلوا في يقظة دائمة تجاه الحقوق والواجبات التي يتطلبها منهم الإسلام، فارتبط لديهم الفكر بالعمل والقول الصالح بالفعل الصادق.

وضربوا أروع الأمثال في التلازم بين الفكر النظري والتطبيق العملي، وهم في ذلك يستوحون روح هذا الدين الذي يرسم الأفق الأعلى للحياة، ويطلب من معتنقيه أن يتجهوا إليه، ويحاولوا بلوغه، لا بأداء العبادات فحسب وإنما بالتطوع للقيام بما هو أعلى من العبادات وأشق منها، فاستحال الإسلام فيهم نماذج إنسانية تعيش، ووقائع عملية تتحقق وتترك آثارها في الحياة.

ومن ثَمَّ كان التاريخ الإسلامي مليئًا بصور من البطولات الحية التي سجلها علماء السلف الصالح في شتى مناحي الحياة.

مواقف خالدة:

ولعلَّ أروع هذه البطولات تلك المواقف الخالدة التي سجلها العلماء من الأمراء والحكام الذين خرجوا عن جادة الأمر، وغرتهم الحياة الدنيا، فاتبعوا أهواءهم حرصًا على الحكم والسلطان، فقد التزم أولئك العلماء بنصحهم وتصويبهم وصدهم عن الظلم وتبصيرهم بالعاقبة.

ولم تأخذهم في ذلك لومة لائم؛ لأنهم امتثلوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم: "سيكون أمراء فسقة جورة، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني وليس بوارد على الحوض".

فخافوا أن يُنزِل الله عليهم سوط عذاب، ويحشرهم مع الظالمين، ويكون مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا؛ لذلك قاموا بالواجب خير قيام، وألزموا أنفسهم هدي النبي عليه السلام، فلم يتركوا ظالمًا يتعدى حقوق الله، متجبرًا في الأرض إلاَّ وقفوا في وجهه، وقالوا ما يُرضِي ربهم، وإن أسخط الناس عليهم.

ومواقف علماء السلف الصالح من الحكام الذين بدر منهم الانحراف في العقيدة والسلوك، ودخلوا مداخل الظالمين بفسقهم كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال:

الحسن البصري:

1- لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدًا بالسمع والطاعة، وقد ولاّني ما ترون، فيكتب إليَّ بالأمر من أمره، فأنفذ ذلك الأمر، فما ترون؟

فقال ابن سيرين والشعبي قولًا فيه تَقيَّة[1]، قال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟

فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله! إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبَنَّ دين الله وعباده لسلطان؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

الأوزاعي:

2- وعندما قدم عبد الله بن علي العباسي الشام، وقد قتل من قتل من بني أمية بعد ذهاب دولتهم، استدعى الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، وهو في جنده وحشمه، وقال له: "ما تقول في دماء بني أمية؟
قال الأوزاعي:

قد كان بينك وبينهم عهود، وكان ينبغي أن تفي بها. قال الأمير العباسي: ويحك! اجعلني وإياهم لا عهد بيننا. قال الإمام: فأجهشت نفسي وكرهتُ القتل، فتذكرت مقامي بين يدي الله تعالى فلفظتها، وقلت: دماؤهم عليك حرام.

فغضب الأمير وانتفخت عيناه وأوداجه، فقال: ويحك! ولِمَ؟ أوَليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى لعليٍّ؟ قلت: لو أوصى لعلي ما حكم الحكمين؟! فسكت وقد اجتمع غضبه، فجعلتُ أتوقع رأسي يسقط بين يديه، فأشار بيده هكذا، وأومأ أن أخرجوه. . فخرجت.

حطيط الزيات:

3- وروي أن حطيطًا الزيات جيء به إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدا لك، فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سُئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال: فما تقول فيًَّ؟ قال: أقول إنك من أعداء الله في الأرض، تنتهك المحارم وتقتل بالظِّنَّة[2].

قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول إنه أعظم جرمًا منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه. فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب، وما زالوا يعذبونه وما سمعوه يقول شيئًا، فقيل للحجاج:

إنه في آخر رمق. فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال الراوي واسمه جعفر: فأتيته أنا وصاحب له، فقلنا له: حطيط، ألك حاجة؟ قال: شربة ماء. فأتوه بشربة، ثم مات. وكان ابن ثماني عشرة سنة رحمه الله.

سفيان الثوري:

4- وعن سفيان الثوري قال: أُدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى، فقال لي: ارفع إلينا حاجتك. فقلت له: اتق الله، فقد ملأت الأرض ظلمًا وجورًا. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك.

فقلتُ: إنما أُنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعًا، فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم. فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك. فقلت: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لخازنه: كم أنفقت؟ قال: بضعة عشر درهمًا، وأرى هاهنا أموالًا لا تطيق الجمال حملها. . وخرج.

العز بن عبد السلام:

5- وعندما حالف الملك إسماعيل الصليبيين وسلَّم لهم صيدا وغيرها من الحصون الإسلامية، وذلك لينجدوه على نجم الدين بن أيوب ملك مصر، أنكر عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء آنذاك هذه الفعلة، وحاسب الملك عليها من على المنبر يوم الجمعة.

وذمَّ الملك وقطع الدعاء له من الخطبة، فأُخبر الملك بذلك، فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام عن الخطابة واعتقاله ومنعه من الإفتاء في الناس، ثم بعث إليه الملك يعده ويمنيه، فقال له الرسول: تُعاد إليك مناصبك وزيادة، وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان. فما كان جواب الشيخ إلا أن قال: والله ما أرضاه أن يقبِّل يدي، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد.

وهكذا استحالت المعرفة لدى علماء السلف الصالح طاعة فاعلة مؤثرة تحقق مدلولها في عالم الواقع، وتسعى إلى بناء مجتمع تتمثل فيه العقيدة، طاقة تنشئ وتعمر، وتغير وتطور، فكان أولئك العلماء قادة خير، ومنارات هدى، وسياجًا منيعًا يصد كل من جمح به هواه.

وقد أبدى العلماء المسلمون، وإلى أمد غير بعيد، حساسية فائقة تجاه الحكام باعتبارهم يتحكمون بمصير الأمة، فلم يتهاونوا معهم إذا ما بدر منهم أدنى تقصير أو تفريط أو انحراف، بل كانوا يتصدون للفساد من بدايته بالحكمة والموعظة الحسنه حينًا، والتعنيف والترهيب حينًا آخر.

وكان لهذا النهج دور كبير في الحد من طغيان الحكام وإيقاظ ضمائرهم والحفاظ على جماعه المسلمين من الانحراف المهلك، الذي لم تقع فيه إلا حين رفع العلماء أيديهم، وتراجعوا عن واجباتهم ومسئولياتهم الشاملة، وحصروها في إطار العبادات والفرائض والتفكير المجرد، واستسلموا وأسلموا أنفسهم لسلاطين جائزين تكبروا في الأرض بغير الحق، واتخذوا سبيل الغي سبيلًا.

والحالة هذه فإنه ليس أمام علماء المسلمين خاصَّة والأمة عامَّة إلا أن تسعى جاهدة لنصح أولئك الحكام؛ {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور} [الحج: 41].

[1] التقية عند أهل السنة المداراة دون المداهنة عند الحاجة إلى المداراة، والنطق بما لا يعتقده الشخص إذا خاف المسلم على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان. أما عند الشيعة فهي إظهار الموافقة للمخالف ولو كان محقًّا مع إبطان مخالفته والاستمرار على ما عندهم من ضلالات، وهي عين النفاق الذي هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر.
[2] الظنة: التهمة.

الكاتب: شفيق محمد الرقب

المصدر: مجلة الأمة، ذو الحجة 1403هـ/ 1983م